فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشىء عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها.
فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك}.
وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم {أو تكون له جنة} [الفرقان: 8] الخ، أي إن شاء جعل لك خيرًا من الذي اقترحوه، أي أفضل منه، أي إن شاء عجله لك في الدنيا، فالإشارة إلى المذكور من قولهم، فيجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جناتتٍ في الدنيا وقصورًا فيها، أي خيرًا من الذي اقترحوه دليلًا على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور.
وبهذا فسر جمهور المفسرين.
وعلى هذا التأويل تكون {إن} الشرطية واقعة موقع {لو}، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعدًا من الله لرسوله.
واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيرًا من ذلك.
فموقع {إن شاء} اعتراض.
وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيرًا من ذلك جنات إلى آخره.
ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم {ويجعلُ لك قصورًا} برفع {يجعلُ} على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفًا على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة، وهذا المحمل أشد تبكيتًا للمشركين وقطعًا لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده: {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} [الفرقان: 11]، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين.
والقصور: المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله: {تتخذون من سهولها قصورًا} في سورة الأعراف (74)، وقوله: {وقصر مشيد} في سورة الحج (45).
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)}.
{بل} للإضراب، فيجوز أن يكون إضرابَ انتقال من ذكر ضلالهم في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكر ضلالهم في إنكار البعث على تأويل الجمهور قوله: {إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك} [الفرقان: 10] كما تقدم.
ويجوز أن يكون اضرابَ إبطال لما تضمنه قوله: {إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك} على تأويل ابن عطية من الوعد بإيتائه ذلك في الآخرة، أي بل هم لا يقنعون بأن حظ الرسول عند ربه ليس في متاع الدنيا الفاني الحقير ولكنه في خيرات الآخرة الخالدة غير المتناهية، أي أن هذا رد عليهم ومقنع لهم لو كانوا يصدّقون بالساعة ولكنهم كذبوا بها فهم متمادون على ضلالهم لا تُقنعهم الحجج.
والساعة: اسم غلب على عالم الخلود، تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث.
وإنما قصر تكذيبهم على الساعة لأنهم كذبوا بالبعث فهم بما وراءه أحرى تكذيبًا.
وجملة: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرًا} معترضة بالوعيد لهم، وهو لعمومه يشمل المشركين المتحدث عنهم، فهو تذييل.
ومن غرضه مقابلة ما أعد الله للمؤمنين في العاقبة بما أعده للمشركين.
والسعير: الالتهاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعور، أي زيد فيها الوقود، وهو معامل معاملة المذكر لأنه من أحوال اللهب، وتقدم في قوله تعالى: {كلما خَبَتْ زِدْناهُم سعيرًا} في سورة الإسراء (97).
وقد يطلق علَمًا بالغلبة على جهنم وذلك على حذف مضاف، أي ذات سعير.
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)}.
تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم، وأجري على السعير ضمير {رأتهم} بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم.
وإسناد الرؤية إلى النار استعارة والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى: {رأتهم} رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازًا عقليًا.
والتغيظ: شدة الغيظ.
والغيظ: الغضب الشديد، وتقدم عند قوله: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة آل عمران (119).
فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازًا في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون.
والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل: {سمعوا} فهو تشبيه بليغ.
والزفير: امتداد النفَس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتًا كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضًا.
ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكًا للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا.
وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء» رواه في الموطأ: زاد في رواية مسلم: «فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سَمُومها» وجُعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في الكناية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا.
ووصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله: {وإذا ألقوا منها مكانًا ضيقًا مقرَّنين دعوا هنالك ثبورًا} فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله: {دعوا هنالك ثبورًا}، وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله: {مكانًا ضيقًا} وقوله: {مقرنين} تفننًا في أسلوب الكلام.
والإلقاء: الرمي.
وهو هنا كناية عن الإهانة.
وانتصب {مكانًا} على نزع الخافض، أي في مكان ضيّق.
وقرأ الجمهور {ضيقًا} بتشديد الياء، وقرأه ابن كثير {ضيْقًا} بسكون الياء وكلاهما للمبالغة في الوصف مثل: ميّت وميْت، لأن الضيّق بالتشديد صيغة تمكُّن الوصف من الموصوف، والضيْق بالسكون وصف بالمصدر.
و{مقرنين} حال من ضمير {ألقوا} أي مقرَّنًا بعضهم في بعض كحال الأسرى والمساجين أن يُقرن عدد منهم في وثاق واحد، كما قال تعالى: {وآخرين مقرنين في الأصفاد} [ص: 38].
والمقرَّن: المقرون، صيغت له مادة التفعيل للإشارة إلى شدة القرن.
والدعاء: النداء بأعلى الصوت، والثبور: الهلاك، أي نادوا: يا ثبورنا، أو واثبوراه بصيغة الندبة، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني، أي تمنوا حلول الهلاك فنادوه كما ينادى من يُطلب حضوره، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده، أي تمنوا الهلاك للاستراحة من فظيع العذاب.
وجملة: {لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا} إلى آخرها مقولة لقول محذوف، أي يقال لهم، ووصف الثبور بالكثير إما لكثرة ندائه بالتكرير وهو كناية عن عدم حصول الثبور لأن انتهاء النداء يكون بحضور المنادَى، أو هو يأس يقتضي تكرير التمني أو التحسر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء، وأنه جل وعلا أعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة: أي أنكر يوم القيامة سعيرًا: اي نارًا شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيرًا} يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما تكذيبهم بالساعة، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث، والجزاء بعد الموت، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان: 3435] وقوله تعالى: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [الجاثية: 3234] فقوله: {وَمَأْوَاكُمُ النار} بعد قوله: {قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة} [الجاثية: 32] الآية، يدل على أن قولهم: {مَّا نَدْرِي مَا الساعة} هو سبب كون النار مأواهم، وقوله بعده: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُوًا} [الجاثية: 35] لا ينافي ذلك لأن من اتخاذهم آيات الله هزوًا تكذيبهم الساعة، وإنكارهم البعث كما لا يخفى، وكقوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد: 5] فقد بين جلا وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث، الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} جامع بين أمرين.